قيمة الإبداع في مِرجَل البحر المتوسط
Feb 2020
تنشر اتجاهات، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري. وتسعى سلسلة مقالات أقلام إلى مناقشة علاقة المضمون الفني مع الحدث العام ومفهوم الرسالة، والبحث في المعايير الفنية التي تحكم العملية الإبداعية السورية.
ميشيل تريمارشي
يشيع الحديث عن الإبداع في المرحلة الحالية. يعتبر العديد من التقارير الاقتصادية ومؤسسات الدعاية والأفراد والباحثين الإبداع محفزًا مهمًا للنمو. ثمة سؤال مثير للجدل هنا يتعلق بأن وصف الإبداع يرتبط بقطاعات حيوية (وتشهد تنافسًا عدائيًا حاليًا) مثل الموضة والتصميم والطهي، وهذا يؤدي إلى الخطوة التالية، وهي الإيمان بأن المال الذي يُنفَق على الأنشطة الإبداعية، أيًا يكن قدره، قادر على مضاعفة قيمته. والنتيجة النهائية بسيطة: الاستثمار في الإبداع والفن والثقافة مناسب اقتصاديًا وصحيح أخلاقيًا وله فضائل سياسية.
تنطوي هذه الرؤية التبسيطية على مخاطر عدة: لا يهدف الإنفاق العام إلى تحقيق العائدات المالية، بل إلى توفير خدمات أساسية لمختلف مكوّنات وشرائح المجتمع، والإبداع ليس شيئًا بل هو فعل. وإذا اتفقنا أننا لا نستطيع أن نعتبر كل لوحة عملًا فنيًا، فلا يمكننا أن نعتبر كل زجاجة نبيذ أو ثوب أو كنبة إبداعًا، وهكذا يصبح الموضوع محيرًا ومربكًا. كيف يمكننا تعريف الإبداع والتركيز على قيمته في سياق البحر المتوسط؟ ليس الإطار المقصود جغرافيًا بالضرورة، بل يمكن أن يكون فلسفة أو مقاربة منهجية، أو عدسة ينظر منها سكّان حوض المتوسط إلى الحياة ويفسّرون من خلالها العالم.
في ظل تدهور المنظومة الصناعية، علينا التفكير في بعض الحقائق المهمة. أقنعت المركزية الأوروبية وتحيزاتها الاستعمارية الكثيرين بأن النموذج التنافسي الصناعي هو أفضل نظام ممكن، وبأن المجتمع والاقتصاد وصلا أخيرًا إلى العصر الذهبي. ولكن هذا خاطئ تمامًا. يمكن لمراكمة البضائع والخدمات والأموال المساعدة في مواجهة رغباتنا واحتياجاتنا، ولكنه لا يمنح السعادة، ويجعل البحث عنها صعبًا ومعقدًا. اعتُبِرت كافة الصور الأخرى للعالم، بغباء، "خاطئة" أو "لا تتمتع بالكفاءة". في الواقع، ما نحتاج إليه هو مجتمع فعّال (الكفاءة مجرد معيار نظري).
يمكن لمِرجَل المتوسط أن يقدم لنا عدة اقتراحات: أ) مصدر الخصوبة هو التنوّع، ب) يأتي الإبداع من القدرة على فعل شيء لا نعرف كيف نفعله، ج) يجب ألا نتعامل مع المكان والزمان على أنهما شبكة محمية، بل على أنهما نطاقان انسيابيان يمكننا أن نرسم فيهما مساراتنا بمقاربة تجريبية، د) يمكن لأطراف البحر المتوسط الثلاثة الكثير من تفاعل المقاربات وجمع الآراء المجردة والملموسة وربط تمثيل الذات بالرغبة في التأمل. لقد فعلنا هذا طيلة قرون وحقق نجاحًا، رغم المحاولات العديدة لتحويل كل شيء إلى مجرد صراع على الملكيات الخاصة.
بهذا المعنى، علينا التعامل بحذر وحساسية مع مشكلات وتناقضات التجارب في المنطقة: تتعرض تقاليدنا القديمة القائمة على التواصل والتبادل لأثر خطير ناجم عن صراع غبي على الأرض والحدود والأسوار. أيًا تكن ما تعانيه منطقة ما من هذه الجروح، كما هو الحال في سوريا وليبيا حاليًا، لا يستنفذ طاقتنا وقدرتنا على إرساء قيم ونقاط قوة مشتركة فحسب، بل يسبب أيضًا استسلامًا جماعيًا ويتيح للقوى الخارجية (وعادة ما تكون استعمارية) التدخل في إيقاعنا الفريد من التعاون والتداخل والاستفادة من التجارب. إنها عودة إلى ماضٍ مخترع يضخّمه وهم الحماية، ولكنه في الواقع معاكس لاتجاه سير تاريخ الحضارة.
ولعل أبلغ مثال على بناء مجتمع (واقتصاد) جديد باحة الحرفيين، حيث ترسي التجربة والعلاقات والتقارب قيمًا في العمل والأعمال المصنوعة قد تبدو مشابهة لما مضى، ولكنها في الحقيقة فريدة لأنها تعكس حوارًا لانهائيًا بين الحِرفي المبدع والزبون، وتتضمن تفاعلًا غير رسمي بين الخبرة التي يمتلكها صاحب الحرفة، الذي يدرك أن الإبداع يكتسب قيمته من تلقّيه، مثل الطعام الذي يوجد الطاهي قيمته. يمكن لهذا أن يساعدنا على التركيز على نقاط التشابه ووجهات النظر المشتركة، ويمكن أن يساعد الدول الضعيفة ومناطق الصراع والأشخاص التائهين. الإبداع هو ما سينقذنا من الغباء.