2025: ولم لا... | الخيال كفعل مقاومة


ولم لا...
من حقّنا أن نتركَ ما في أيدينا قليلًا، أن نتوقّف عن محاولة الفهم قليلًا ونتباهى، نصفّق، نَشرُقُ بالدّمع أو بالفرح كما الأطفال، أن نؤجّل البحث عن الغدِّ ولو لبرهةٍ، برهةٌ قصيرةٌ تكفي لننهضَ، لننتصب، لندفن قتلانا ونبكي عليهم كما يليق بهم، لنرثي مواسم الخبز المحروق، من حقّنا -إن شئنا- أن نَشتُم كما نشاء، أن نصرخَ، أن نفعلَ ما نشاء كيفما نشاء، دون أن نرى وجودنا ينهار فوق رؤوسنا هذه المرة.
من حقّ الأمل أن يستعيد الثقة؛ لقد سقط الديكتاتور، هربت دمية الطغاة كما يليق بهم، وأينعت دمائنا كما يليق بنا.
غيرَ أنّ المكانَ هو المكان والفجر مازال رماديًا في شرقنا المنسيّ عمدًا على حافّة الهاوية؛ غزّة تنزف في الرمق الأخير، لبنان يتعثّر في جروحه وتناقضاته أمام مرحلةٍ جديدة وغدٍّ قلق، تحرّرت سوريا جاثيةً على ركبتيها، تُلملم أشلاءها فيمّا تبقى من دولةٍ منهوبةٍ، مُتحلّلة المؤسّسات، مفتوحةً على كلّ رِهانات الإخوة الأصدقاء والإخوة الأعداء.
ولم لا...
مادامت كلّ السّيوف التي اخترقت لحمنا عجزّت عن قوّة الروح فينا، فمن واجبنا أن نستعيدَ الثّقة بالحُلم، أن نُعيده إلى أوّله، إلى صرخة الحريّة الأُولى. من واجبنا التقاطُ أنفاسنا وطرح الأسئلة من جديد، أسئلةٌ كثيرة لنرسمَ مشهدنا الخاص؛ ما الذي سنقوم به، أين أخطأنا؟ كيف نُخفي التناقض فينا وبيننا لنمضي في موكبٍ واحدٍ على تنوعنا واختلافاتنا، كيف نبني مشروع الخروج جماعيًا من الهاوية، بصوتٍ موحّد يعبّر عن هُويتنا وعن احترام المتعدّد في كينونتنا في ذات الوقت.
ولم لا...
بإمكاننا إعادة إنتاج أدواتنا، تحريرها، لتصبحَ أكثر قدرةً على التجرّد أمام الإنسانيّ فينا، أن نمشي حفاةً من تحيّزاتنا المسبقة عن سُكان المتاريس المختلفة في أوطاننا، لنصوغ معاً سؤال الحريّة الذي تبحث عنه جميع الجبهات المتخاصمة -حدّ الإقصاء- في شعوبنا. هذه مساحتنا وهذا ميدان عَملنا، وليس لنا غيره، ماذا تريد الثقافة وماذا بوسعها أن تفعلَ أكثر من الدفاع عن عِناد الأمل المُحتضر، أكثرَ من الدفاع عن إرادة الذاكرة وهشاشة المكان وهل غير الخيالِ قادرٌ على صيانة الحلم بالمستقبل! أمّا الحاضرُ فمثله مثل التاريخ لا تُشكّلهُ سوى حِراب الأقوياء. هذه الأسئلةُ ليست جديدةً، لكنّها مُلحّةٌ الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى. 
ومع أنّنا نحمل في أيدينا أدواتٍ تبدو هشّةً أمام سطوة العنف والإبادة، لكنّنا نحاول أن نخلقَ مساحةً للصمود، للفنّ، للأدب، للخيال الذي يُقاوم، ويمنح الحياة معنًى وسط الهاوية. وكما قال "جان فرانسوا ليوتار": "في مواجهة السرديّات الكبرى، تنبثقُ القصص الصغيرة لتعيدَ صياغة الواقع." لذلك نحن نؤمن بأنّ الإبداع هو طريقنا لمواجهة عنف السرديات الأُحادية، تلك التي تحاول قمعَ التنوعِ وفرض رواياتها على الجميع.
في عالمٍ يزداد ضيقًا وعداءً، يُصبح الفنّ مساحةَ تنفسٍ وحياة. في ظلّ واقعٍ يبدو كأنّه يُعيد تشكيل الخرائط بالحروب، نُقاوم من خلال استحضار قوّة الخيال؛ آخر ملاذٍ للحقيقة في زمنٍ أصبحت فيه المُحاكاة تغلب الواقع.
لكنّنا، ونحن نُقاوم، نُدرك أنّ التحديات التي نواجهها لا تأتي فقط من الحروب أو القمع، بل أيضًا من التحوّلات العميقة التي يعيشها العالم في عصر ما بعد الرأسمالية والثورة الرقمية حيث تُستبدل المعرفة والخيال بالمعلومات الثقيلة السطحيّة، ويصبح الإنسان مستهلكًا لحظيًا لما يُنتجه من معلوماتٍ، وهكذا، فإنّ الخيال نفسه – هذا الذي يُشكّل جوهر الإبداع – يُصبح مهددًا بالاختفاء، وبدورها هذه التحوّلات الاجتماعية المتسارعة أسهمت في تراجع الإصغاء إلى لغة المعنى. والكاتبُ بدوره لم يعدْ فقط خالقًا، بل صار أيضًا مُروجًا وبائعًا وموظفًا لجمهوره. نحن أمام "تسليعٍ للذات"، حيث يُختزل الإبداع ليصبحَ مجرد سلعةً أخرى في السوق.
في مواجهة هذا الواقع، يُصبح الإصرار على صناعة الجمال نوعًا من المقاومة. ولذلك يُحاول الأصدقاء في  (اتجاهات) منحَ الإبداع أدواتٍ جديدةً ليقاومَ الرداءة المحيطة بخلقِ مساحاتٍ بديلة، "حديقةٍ لصناعة المستقبل" إن جاز لنا التعبير، حيث يُمكن للتفكير والحوار أن يزدهرا. ولنستعيد قوةَ الخيال كوسيلةٍ لفهمِ العالم وتغيّيره.  ما يقومون به أكثر من مُجرد مساحةِ عملٍ؛ بل تربةً تحتضن الأحلام الصغيرة، فسحةً يُمكن من خلالها للشباب والشابات ابتكار فنونٍ جديدةٍ تعكس واقعهم وتقاوم الإقصاء. عملهم يمتدّ من توثيق الحقيقة إلى تقديمها في أشكالٍ إبداعيّة: رواياتٍ، أفلام، لوحاتٍ، وأبحاث أكاديميّة. هذه المشاريع الصغيرة ليست فقط مُقاومة للهامشيّة، بل هي أيضًا بذورُ أملٍ نزرعها لنحصد غدًا مختلفًا.
أستعيد حوارًا طويلاً مع صديقةٍ في سوريا، كانت معتقلةً في الثمانينيات، عاشت طويلاً قسّوة السجّنِ وعُنفه. قلت لها يومًا: "أنتنّ أصحابُ الفضل علينا." في ذلك الوقت عندما كان جيلنا مراهقًا، سَمعنا أنّ هناك من قال "لا" وحيدًا في وجه ِالطغيان. أجابت بتواضعٍ: "لا فضلَ لأحد، نحن فقط نحملُ أعباءنا ونُسلّمها." لكنّني أصرّ على القول: إنّ أصوات المقاومةِ التي رفضَتْ الاستسلامَ، تلك الأصواتُ التي قالت "لا" في زمنِ الخُضوع، هي التي تجعلنا نُؤمن بأنّ هذه ليست النهايةَ. نحن نُعيد اكتشافَ أنفسنا بفضلِ هذه السلاسل البشريّة التي تمتدّ عبرَ الأجيال، والتي تربطنا بمن سبقونا وتصلُ بنا إلى من سيأتي بعدنا؛ أن نخلقَ سردياتٍ تقاوم، وأن نقولَ للعالم هذه ليست النهاية. 
ولماذا لا...
في الإرادة ما يكفي من العافية، لنحملَ جراحنا ونزيفنا الدائم، ونسير نحو الأمل.

سمر يزبك 

 


© الحقوق محفوظة اتجاهات- ثقافة مستقلة 2025
تم دعم تأسيس اتجاهات. ثقافة مستقلة بمنحة من برنامج عبارة - مؤسسة المورد الثقافي