لماذا نحتاج إلى المسرح التفاعلي اليوم في سوريا؟

بعض الأفكار من مؤسّسة مواطنون. فنّانون


تشهد سوريا الكثير من الأحداث المتسارعة الآن وتترافق هذه الأحداث مع تغيّرات عديدة في الأفكار والآراء ووجهات النظر التي يُعبَّر عنها – من أكثرها موضوعيّة إلى أكثرها راديكاليّة – عبر وسائل متعدّدة افتراضيّة وغير افتراضيّة. هذا أمر طبيعي ويمكن أن يكون مؤشّراً جيّداً في بلد يعيش مرحلة انتقاليّة بكل ما تعنيه هذه المرحلة، إلّا أنّ المتابع المهتم بالرأي العام يستطيع أن يرصد انتشار بعض المفاهيم التي تعدّ خطرة على تنوّع المجتمع السوري، مثل: رفض الآخر والتعصّب للطائفة والتأكيد على الانتماء الإثني، حتّى إنّ خطاب الكراهية والإقصاء تسلّل إلى الطبقات المتعلّمة وإلى بعض النخب الثقافيّة، إضافة إلى الفئات الشابّة التي لم يتشكّل وعيها إلّا في ظلّ ظروف قاهرة طوال السنوات الأربع عشرة الماضية ما تمظهر في سلوكها في تفاصيل الحياة اليوميّة. كل هذا يطرح السؤال التالي المهم: كيف يمكن استخدام وسائط فنيّة جديدة لمعالجة هذه المشكلة القديمة – المتجدّدة؟ ما دور الثقافة في هذه المرحلة وما أهميّة استخدام أدوات فنيّة متنوّعة لمواجهة هذا كله والعمل على تفكيكه؟

بدايةً، سنحاول هنا توصيف السياق الحالي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد مع معرفتنا أنّ هذه المحاولة هي محاولة معقّدة بسبب تسارع الأحداث سواء التي حدثت أم التي ما تزال تحدث على الصعيدين: الداخلي والخارجي.

بعض من ملامح السياق العام الآن:

"رحل الأسد!" هزّت هذه الجملة السوريّين كافّة في 8 كانون الأول 2024 داخل سوريا وخارجها بعد سنوات طويلة من انطلاق شرارة الثورة السوريّة عام 2011 وتحوّلها إلى نزاع مسلّح وما رافقه من حركات نزوح داخلي وهجرة كبيرة، لا سيّما بعد عدّة تحرّكات بدا فيها النظام السابق وكأنّه يتّجه نحو إعادة تثبيت نفسه في المجتمعين: العربي والدولي، وبالمقابل وصلت فصائل وقادة هيئة تحرير الشام إلى السلطة بزعامة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً) وشكّلت حكومة تسيير أعمال (وهي حكومة الإنقاذ التي كانت في مدينة إدلب وانتقلت لتمسك بزمام الأمور في البلد) لتتولّى هذه المهمّة لأكثر من ثلاثة شهور إلى حين تشكيل حكومة انتقاليّة. ومرّت الشهور وهناك تغيّرات كبيرة تحصل لا نعرف كيف نوصّفها.

يمكن إجمال القول بأنّ البلد يعاني من إنهاك وتلف يطال المستويات كافّة وأفراد البلد كافّة:

على المستوى الاقتصادي، تفاقم الفقر أكثر لدى شرائح كبيرة من المجتمع السوري خاصّة بعد قرارات التسريح التعسّفي التي أصدرتها حكومة تسيير الأعمال، وطال هذا التسريح عدداً كبيراً من موظّفي الدولة، كما جرى حلّ الجيش السوري وقُطعت المعاشات، سواء الجارية أم التقاعديّة، عن الكثير من العائلات. في الوقت ذاته، جُمّدتْ حسابات الكثير من المؤسّسات الحكوميّة، وحُصرت أوامر الصرف بمعاشات العاملين فقط. وانخفض سعر الدولار أمام الليرة السورية (علماً أنّ أكثر الناس يعيشون على مساعدات الخارج) وترافق هذا الانخفاض بانخفاض في أسعار المواد الغذائيّة إلى حدّ ما، لكنّه لم يطل جوانب الحياة الأخرى مثل المواصلات واللباس وإيجار البيوت. وانتشرت "البسطات" في كل زاوية وفي كل شارع وفي كل ساحة: بسطات تبيع كل شيء بدءاً من الملابس المستعملة والأطعمة الأجنبية (بالذات التركية) مروراً بالأدوات الكهربائيّة والزجاجيّة وليس انتهاء بصرف العملات الأجنبيّة وبالذات الدولار الأمريكي والليرة التركية. وحتّى الآن لم تنعم البلد بلحظة استتباب للأمن يشجّع المستثمرين على القيام بمشاريع فيها، كما أنّ العقوبات تشكّل سيفاً حادّاً أمام أي أعمال تطال قطاع الطاقة، أو إعادة الإعمار وغيرها. وهناك أحداث كثيرة وقعت تحت بند الطائفيّة وكأنّ البلد كان بانتظار فرصة جديدة ليتفكّك كليّاً.

ولا بدّ من ذكر أنّه في بداية وصول السُّلطة الجديدة فُتحت السجون وحُرّر من فيها من سياسيّين وسجناء الحق العام والمجرمين لذا عرفت البلد نوعاً من الفلتان الأمني المخيف والغريب عن مجتمعاتنا. 

على المستوى الحكومي، من النافل قوله إنّ البنى التحتيّة جميعها في سوريا الآن قديمة وتالفة. ولا بدّ من أن نذكر أنّ الاهتمام انصبّ على نحوٍ أساسي على الوزارات السياديّة مثل وزارة الدفاع ومحاولة حلّ الفصائل وتشكيل جيش موحّد، ووزارة الداخليّة وإعادة تشكيل أجهزة الشرطة والأمن الداخلي، لا سيّما أنّه جرى حلّ هذه الأجهزة بعد سقوط الأسد، بما فيها شرطة المرور والمخافر والشرطة الجنائيّة. واستُغني عن كل الكفاءات مهما كان توجّهها وهذا خطأ كبير. كما جرى الاهتمام بوزارة الكهرباء ووزارة الصحّة وغيرها من الوزارات الخدميّة إلى حدّ معيّن، لكن من جهة أخرى، بقيت وزارات ونقابات وهيئات عديدة مثل وزارة السياحة ووزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل ووزارة الثقافة ونقابة الفنّانين مجمّدة من دون أي دور، أو عناية، وقد صرّح بعض المسؤولين الجدد أنّهم لا يمتلكون المعرفة ولا الخبرة لإدارة هكذا قطاعات وأنّهم ينتظرون تشكيل الحكومة الانتقاليّة، وهذا ما حدث الآن وصار السيّد أحمد صالح وزير الثقافة (لكن حتّى الآن لم نعرف سياسته تجاه مؤسّسات الوزارة ولا الخطوات التي ينتهج العمل عليها). يمكن الحديث منذ الآن عن سمة واضحة في الحكم الجديد تتمثّل في الاستئثار بالسُّلطة والوزارات السياديّة وسيادة اللون الواحد (الإسلامي) وعدم تقبّل مشاركة الآخر (مهما يكن هذا الآخر) والارتياب تجاه مَن لم يكونوا مع هذه الإدارة في إدلب. كما أنّ هناك رغبة في تعميم تجربة إدلب بعَدّها المرجع المؤسّس للمجتمع السوري في المستقبل، والرغبة في التحكّم  بالوزارات كافّة من خلال استحداث اللجنة السياسيّة مؤخّراً للإشراف على عمل جميع المؤسّسات.

على صعيد العمل المجتمعي والمدني، من الظواهر اللافتة في هذه الأشهر الأخيرة هي عودة النقاشات لترتفع عالياً حول الحق في امتلاك الفضاء العام، الفعلي والافتراضي، وظهرت العديد من الأنشطة والمبادرات والتجمّعات، نذكر منها: مبادرة بدايتنا التي تعقد جلسات علنيّة مع مختصّين متنوّعين في مقهى الروضة، تجمّع سوريا الديمقراطي الذي يعقد جلسات منتظمة له في مقهى الكمال. وعادت مؤسّسات ومنظمات العمل المدني لتعمل في سوريا حيث أُعلِنَ عن مقرّ مدنية التي يرأسها أيمن الأصفري وقد استضافت عدداً من الفعاليّات مثل حفل لكورال غاردينيا بقيادة سفانة بقلة والاجتماع العام الذي عقدته مؤسّسة اتجاهات- ثقافة مستقلّة فيه تحت عنوان: عن المأسسة وأشكال التنظيم وغيرها من الفعاليّات التابعة لمدنية. كما شهدت المدن السوريّة عدداً كبيراً من الوقفات التضامنيّة والاحتجاجيّة ومن أهم القضايا التي طُرحتْ في هذه الوقفات: قضيّة المغيّبين والمفقودين ومصيرهم ومصير عائلات المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، والتعامل مع الوثائق والأدلّة التي بقيت في فروع الأمن والسجون، كما شهدت الساحات وقفات تضامنيّة مع أهل الساحل الأبرياء في المجازر الأخيرة، ووقفات أخرى لدعم درعا في مواجهة توغّل الجيش الإسرائيلي والتضامن مع غزّة بالذات وفلسطين عامّة. إضافة إلى ذلك، أعلن عدد من المؤسّسات المجتمعيّة عن عمله في سوريا بعد سنوات من العمل السريّ في السنوات السابقة مثل بسمة وزيتونة التي قامت وتقوم بالعديد من الأنشطة داخل البلد، وأقامت الحركة السياسيّة النسويّة السوريّة مؤتمرها الأول في فندق الشام في دمشق على نحوٍ علني. لكن كل هذا تراجع مؤخّراً وكأنّ الناس أصيبوا بخيبة أمل.

ومن الظواهر اللافتة أيضاً مجيء/ عودة الكثير من القنوات التلفزيونيّة ووكالات الأنباء العالميّة للعمل في سوريا عبر إرسال مراسلين، أو إنشاء مكاتب لها في دمشق، ولا سيّما تلفزيون سوريا والعربي الجديد، إضافة إلى الجزيرة والعربية وغيرها. وأعلن صحفيّون كثُر عن أسمائهم الصريحة بعد الكتابة لسنوات تحت أسماء مستعارة في مواقع متعدّدة أبرزها موقع الجمهورية. نت

على صعيد الأنشطة الثقافيّة والفنيّة، شهدت العاصمة السوريّة بعض العروض والقراءات المسرحيّة مثل مسرحيّة اللاجئان التي قدّمها الأخوان ملص ثمّ جالا فيها في عدد من المحافظات السوريّة، إضافة إلى قراءات مسرحيّة قدّمتها رغد شجاع بعنوان: غني ثلاثة فقراء في غاليري زوايا (مكان خاص) وعرض قراءات آخر قدّمه ساري مصطفى بعنوان: سُرر في مسرح القباني. كما شهدت دار الأوبرا السوريّة بعض الأنشطة التي اقتصرت على استضافة اليوتيوبر بشر نجار وفعاليّات أخرى من تنظيم مبادرات تعنى بالعمل الصحفي والإغاثي (مثل تكريم عاملين في بعض المنظمات)، كما نُظّم عدد من الفعاليّات مؤخّراً احتفاء بعيد الفطر في عدد كبير من المحافظات السوريّة لا سيّما في المدارس وساحات البلدات من تنظيم جمعيّات خيريّة، أو إغاثيّة.

إنّ آليّة تنفيذ الأنشطة الفنيّة، بالذات في المؤسّسات الحكوميّة، تلفّها الضبابيّة، فقد شُكّلتْ لجنة سياسيّة في وزارة الثقافة لها صلاحيّات واسعة مثل منح الموافقات على الفعاليّات المراد تنفيذها في الأماكن التابعة لهذه الوزارة.

عن عمل مواطنون فنّانون:

يَصبّ عمل مواطنون. فنّانون منذ تأسيسها في شعار: تنمية الثقافة والثقافة للتنمية. وهو من هذه الزاوية عملٌ نوعي، وبذلك مشاركة في جهود التنمية الأشمل على المستوى المجتمعي. وانطلاقًا من اسم المؤسّسة مواطنون فنّانون، فإنّ العمل على الإنسان بمعنى الفرد، المواطن، هو من أولويات المفاهيم التي نصمّم مشاريعنا تبعاً لها بهدف تعزيز الربط بين المواطنة والفنّ والأفراد.

وهنا نحبّ أن نذكر أنّ تأسيس مواطنون. فنّانون أتى استكمالاً لجهود سابقة بدأت منذ عام 2007 حيث عملت المديرة الفنيّة للمؤسّسة الدكتورة ماري الياس كمنسّقة ومستشارة لمشروع مسرح الشباب في دمشق بدعم من مؤسّسة سيدا – المعهد السويدي للدراما، وهو مشروع يدعم الخطوات الأولى للكتّاب والمخرجين الشباب.

 أمّا الشق الآخر فهو التنمية الخاصّة بالعلاقة مع الفئات المنسيّة والمهمّشة. لذلك جرى التوجّه لبناء فريق عمل يتألّف من خرّيجي المعهد العالي للفنون المسرحيّة وتدريبهم في مجال المسرح التفاعلي وإرسالهم إلى الريف السوري المهمّش للقيام بأنشطة متنوّعة تتراوح بين المكتبة المتنقلة وسرد الحكايات وتقديم اسكتشات تفاعليّة أمام جمهور قرى ذلك الريف، وهذا النوع من النشاط دفع بأصحاب المشروع آنذاك إلى تطوير مفهومهم وأدواتهم باتّجاه المسرح التفاعلي على نحوٍ كامل، ومن ثمّ عملت مواطنون فنّانون على مستوى واسع في مدارس دمشق الحكوميّة بمشروع دام سنتين.

لم تستطع مواطنون. فنّانون العمل على القضايا الراهنة بسهولة خلال السنوات السابقة لأسباب متعدّدة أهمّها التضييق الأمني وصعوبة التنقل بين المحافظات السوريّة، خاصّة أنّ جزءًا ممّن كانوا يعملون في مشروع المسرح التفاعلي أصبحوا خارج سوريا إلّا أنّ قسماً آخر بقي في البلد وهو متوزّع في عدّة محافظات سوريّة، وهذا الأمر سهّل إقامة عدد من الورشات والفعاليّات في محافظات متعدّدة منها حلب والسويداء وطرطوس. ومن ثمّ ازدادت الصعوبات عند العمل مع الأفراد في المجتمع وصار العمل محصوراً ومقيّداً في مجالات معيّنة. أتت جائحة كوفيد-19 فعطّلت العمل وحدّت منه وهنا لجأت المؤسّسة إلى إقامة عدد من ورشات الكتابة عبر الإنترنت.

 وهنا لا بدّ من التأكيد أنّه بالنسبة إلى طبيعة المواضيع المطروحة للعمل عليها، هناك حاجة إلى مستوى معيّن من الديمقراطيّة في الطرح، والنقاش من دون خوف، وكان من الصعوبة تحقيق ذلك من دون حماية مؤسّسات أخرى مثل روافد ضمن حدود معيّنة قبل سنة 2011. كذلك الأمر، وجدت حلقة ناقصة لم تتحقق وهي "العودة بالنتائج" لصاحب القرار في البلد، وهذا ما يشكّل استكمالاً للبعد الاجتماعي للمسرح.

ما هو المسرح التفاعلي؟ المسرح التفاعلي هو مسرح مجتمعي، في الدرجة الأولى، يسمح بالدخول على المجتمعات المحليّة والتعرّف على قضايا ومشكلات مناطق عديدة وفئات اجتماعيّة متنوّعة ومعالجتها من خلال المسرح. 

فكرة المسرح التفاعلي جديدة وقديمة نسبيّاً في آنٍ واحد، وتتبنّى مواطنون. فنّانون الحديث عن المبدأ التفاعلي، وهو مبدأ يشمل مجالات عديدة وقد وصلت د. ماري الياس إلى هذا التحديد من خلال العمل على المسرح التفاعلي وعملها كأستاذة جامعيّة حيث تؤكّد أنّ المبدأ التفاعلي يرتبط أيضاً بالنظم التعليميّة، ففي التعليم مثلاً هناك صيغ، أو أساليب تعليميّة متعدّدة، ولكن أفضلها هي الصيغة التفاعليّة، فالمبدأ التفاعلي يقوم بالدرجة الأولى على الحوار، ثمّ على دفع المتلقّي لاكتشاف المعلومة بدلاً من تلقينه إيّاها وهذا يتطلب مهارة عالية ممّن يقود العمليّة. وهنا نضع اليد على أساس هذا العمل وهو خلق الحوار واستفزازه.

بالنسبة إلى مواطنون. فنّانون وقبل تأسيس المؤسّسة أخذت تجربة المسرح التفاعلي شكل التعلم الذاتي والتطوير الذاتي من خلال ممارسة وتطبيق أدوات العمل المسرحيّة والإنسانيّة، خاصّة بعد الاطّلاع على تجارب البلدان المجاورة. إنّ هذا المسرح يبتعد عن التلقين والإجابات الجاهزة ويعطي مساحة للسؤال والتفكير والرفض. تُبنى الكتابة لهذا النوع من المسرح على وجود مشهد مفتوح، من دون خاتمة، أو جواب، وعلى الجواب المحتمل أن يفتح نقاشًا.. وفي الوقت نفسه ليس المهم نص العرض النهائي بحدّ ذاته، على قدر أهميّة العمليّة في إنتاج هذا النص الذي تبدأ من التقاط الفكرة، ومن ثمّ تركيب مشهد وطرح الأسئلة، وما يهم فيما بعد التفاعل مع الجمهور.

إنّ التفاعل والتفعيل وفسح المجال للتعبير الحرّ هي نقاط أساسيّة في تقنيّة المسرح التفاعلي. وكما عند بوال، فالسعي إلى التغيير هو الهدف العام لهذه التقنيّة. في العروض التفاعليّة يجري التفاعل بين العرض والجمهور، بين الممثلين وبين المتلقّين الذين يتحوّلون بدورهم إلى ممثلين. لذا هناك عنصر آخر له أشد الأهميّة في هذه التقنيّة، وهو الجوكر.

وهنا لا بدّ من الكلام ولو قليلاً عن الجوكر الموجود في أدبيّات أغستو بوال منظّر هذا النوع من المسرح: الجوكر هو شخص متدرّب جيّداً على تقنيّات المحاورة وخاصّة الارتجال ومواجهة المواقف الصعبة من خلال طرح الأسئلة والتوجّه للجمهور، الجوكر في العرض المسرحي هو ذلك الشخص الذي يُفعِّل العرض، ويصِل العرض بالجمهور، فهو يوقف العرض الجاري عند نقطة محدّدة، غالباً ما تكون نقطة ذروة حيث يكون هناك صراع بين طرفين، أو أكثر (طرف قاهر وطرف مقهور)، ويسأل المتلقّين ما رأيهم بالشيء الذي يحصل، ويطلب منهم أن يتدخّلوا لتغيير مجرىَ العرض. وهو إذ يفعَل كل هذا، يحافظ على مسافته من الحدث ومن كل الآراء المطروحة ومن كل التدخّلات، فهو حيادي لكنّه ليس حياديّاً سلبيّاً، بل حيادي موضوعي: يستمع إلى كل الآراء، ويناقشها، من دون أن يفرض رأيه، كما أنّه يسمح لأيّ كان بالتدخّل لتغيير مجرى الحدث، وذلك في سبيل التجريب لرؤية ماذا سيحدث. والمدرّب في قلب الجلسات نفسها يشبه الجوكر من حيث كونه حياديّاً موضوعيّاً، ويستمع إلى كل الآراء، ويجرّب كل الاحتمالات، ويناقش كل القضايا والأفكار، بعيداً عن فرض الرأي والسُّلطة، وبعيداً عن الحكم على تصرّفات المشتركين وأفكارهم. إنّ التفعيل مبدأ يُطبّق على سيرورة العمل كلها.

من ناحية أخرى وعلى الرغم من أهميّة المسرح التفاعلي في بلداننا إلّا أنّ الكثير من المؤسّسات غير الفنيّة تستخدمه كنموذج لأنشطتها، وأصبح رائجًا إلى درجة معيّنة، وهو مشكلة في بعض الأحيان لا سيّما عندما يكون غير نابع من قناعة بأنّ المجتمع بحاجة لهذا النوع من المسرح، بل لأنّه أتى من بنى خارجيّة بعيدة عن المجتمع، وخاصّة أنّ النقاش بعد ذلك يغيب تماماً، أو أنّه يصل إلى حدّ لا يستطيع المدرّبون تجاوزه، لذا على الكادر أن يكون مؤهّلاً ثقافيًّا وله قدرة على الارتجال، وإلّا ستكون التجربة غير مكتملة.

لماذا نحتاج للعمل على مفهوم الطائفيّة؟

ننطلق دوماً في تصميم مشاريع المؤسّسة من تحليل الواقع وسياقه، وممّا نراه ونسمعه ونشهده في سوريا الآن، نرى أنّه من المهم جدّاً العمل على مفهوم "الطائفيّة" بحدّ ذاته لفهمها وتفكيكها، ومن ثمّ مواجهتها والعمل على مفاهيم تقبّل الآخر وتقبّل الاختلاف وأنّنا مجتمع متعدّد الهويّات يحق لأفراده أن يتمتّعوا بحريّة المعتقد والتعبير. وندرك أنّ ما واجهناه كشعب سوري خلال سنوات طويلة – لا تقتصر وحسب على السنوات الأخيرة – يجعل من الضروري أن نبدأ العمل من البديهيّات والتعاريف عبر سيرورة حوار ونقاش عميقين من أجل فهم وإدراك أبعاد الطائفيّة وآثارها التي نعاني منها الآن على نحوٍ حقيقي والتي تتمظهر في خطاب كراهية وإقصاء سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أم في ممارسات معلنة، أو مضمرة في الحياة اليوميّة. إنّ التأكيد على قيم المواطنة والإعلاء منها هو هدف المؤسّسة الأعلى.

لماذا المسرح التفاعلي كأداة للعمل على الفكر الطائفي؟

نؤمن بأنّ المسرح التفاعلي أداة فعّالة في العمل المجتمعي الثقافي لأنّه يسمح بالتعرّف على المشاركين على نحوٍ حقيقي ولمدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً، فالهدف هو خلق مساحة تعارف حقيقيّة ليس بين المشاركين أنفسهم وحسب، بل أيضاً بينهم وبين المدرّبين الذين يقومون بالعمل. ونرى أنّه من الضروري أن يجري العمل على الأرض مع الناس مع محاولة لاختراق مجتمعات محليّة لم يجرِ العمل معها سابقاً.

إنّ المسرح التفاعلي لا يكتفي بعرض القضايا، بل يُشرك الجمهور في معالجتها، ممّا يجعله أداة فعّالة في تفكيك الخطابات الطائفيّة والأحكام المسبقة وتعزيز التفاهم بين المكوّنات المختلفة. ولنقُلها بكلمات أخرى: المسرح التفاعلي مساحة آمنة من الحوار والتفكير يساهم في المشاركة المجتمعيّة وتفكيك الصور النمطيّة وخلق تجربة عاطفيّة مشتركة تساهم في إعادة التفكير بالصور النمطيّة السلبيّة التي تغذّي الطائفيّة.

وفي الحقيقة، فتجربة ورحلة العمل بالمسرح التفاعلي كفيلة بحدّ ذاتها بالتغيير وخلق الألفة والحوار والتقبّل.

 

حازت مؤسسة مواطنون. فنانون في عام 2025 على دعم مؤسسة اتجاهات- ثقافة مستقلة ضمن برنامج حياة: مساهمات لدعم الكيانات الثقافية المستقلة، لدعم ورش العمل التفاعلية التي تنظمها في سوريا، مستخدمة المسرح كمساحة حوار آمنة لمعالجة مفهوم الطائفية والإقصائية في المشهد السوري. تهدف الورش إلى إشراك الشباب في نقاشات وحوارات جماعية تسهم في تفكيك الصور النمطية وتعزيز قبول الآخر. حيث من المخطط أن تختم التجربة بعروض تفاعلية ونصوص توثّق نتائج المشاركين بما يساهم في رفع الوعي المجتمعي حول خطورة الفكر الإقصائي.


© الحقوق محفوظة اتجاهات- ثقافة مستقلة 2025
تم دعم تأسيس اتجاهات. ثقافة مستقلة بمنحة من برنامج عبارة - مؤسسة المورد الثقافي