أشكال تأسيس وتنظيم مجموعات الفنانين السورية بقلم مايك فان غران

Jul 2018

مايك فان غران

كاتب مسرحي من جنوب إفريقيا، رئيس شبكة جنوب إفريقيا للسياسات الثقافية، ومستشار فني مستقل

 

تنشر اتجاهات، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري.

من خلال هذه المقال، يرصد مايك فان غران، الكاتب والفاعل الثقافي والمستشار الفني، أشكال التنظيم الفني والثقافي التي عرفتها جنوب إفريقيا خلال فترة نظام التمييز العنصري في داخل البلاد وخارجها وأشكال التحالفات القائمة، كما يتتبع مصير تلك الأشكال والتحالفات عقب انهيار نظام الفصل العنصري وما تلا ذلك من تحولات جديدة في البلاد. ويحاول في نهاية المقال طرح مجموعة من الأسئلة الإشكالية التي يرى أن على الفاعلين الثقافيين والفنانين السوريين اليوم البحث عن أجوبة لها.

 

ليس الهدف من هذه المقالة تقديم وصفة للطريقة المثلى لينظم الممارسون والفاعلون والناشطون الثقافيون السوريون أنفسهم (فهذا أمر يجب عليهم أن يقرروه بأنفسهم)، بل الهدف شرح بعض الدروس المستفادة من تجربة جنوب إفريقيا، التي قد تكون ذات صلة، بدرجة أو بأخرى، بالتجربة الفنية والثقافية السورية.

 

خلال النضال ضد نظام التمييز العنصري، ظهرت عدة فئات من أشكال التنظيم الفني والثقافي، انقسمت بين الفنانين في المنفى (عمومًا تحت رعاية مجموعات سياسية كبرى، مثل المجلس الوطني الإفريقي، الذي حُظِر وأُجبِر على العمل من المنفى)، والفنانين الذين ظلوا داخل البلاد. كان للنضال ضد نظام التمييز العنصري داعمون دوليون كثر واستراتيجيات عدة، حيث نُظمت مقاطعات في السلاح والنفط والرياضة والثقافة، بالإضافة إلى حملات سحب الاستثمارات وغيرها، وسعت إلى عزل نظام التمييز العنصري والضغط عليه لإحداث التغيير.

 

تمتع المجتمع المدني في جنوب إفريقيا بتنظيم جيد، ولكن المقاطعة الثقافية ساهمت في تشكيل ودعم منظمات فنية تقدمية داخل البلاد، ساهمت في تعزيز الأسس لتنفيذ المقاطعة الثقافية (أي تحديد الفنانين من جنوب إفريقيا المسموح لهم بالسفر إلى الخارج من الفنانين المؤيدين لنظام التمييز العنصري).

 

بشكل عام، انقسم الفنانون إلى ثلاث فئات في البلاد خلال فترة التمييز العنصري:

1. الفنانون الموظفون، أو الذين يتلقون الدعم من مؤسسات يمولها القطاع العام، والذين كان يُنظَر إليهم كجزء من الدولة، يستخدمون القوة الناعمة أو الوسائل الثقافية لتعزيز هيمنة القيم والأفكار والرؤى العنصرية والاستعمارية، التي رسخت فكرة تفوق العرق الأبيض. نظرت المنظمات التقدمية إلى هؤلاء الفنانين على أنهم يخدمون "العدو".

2. الفنانون الذين تحالفوا، عن وعي، مع النضال ضد نظام التمييز العنصري، والذين عملوا تحت مظلة فكرة "الثقافة كسلاح للنضال"، فقدموا مهاراتهم ومواهبهم وقدراتهم الإبداعية لإنتاج الموسيقى والمسرح والملصقات والفنون البصرية والغرافيتي والأفلام وغيرها بهدف إنهاء نظام التمييز العنصري. حملت التشكيلات المناهضة للتمييز العنصري إيديولوجيات متعددة، انقسمت بشكل أساسي إلى المجموعات التي تضم أعضاء من مختلف الأعراق، والمجموعات التي رفضت انضمام البيض إليها. انتمى الفنانون إلى المجموعات التي كانت مناسبة لهم، ولكن المجموعات التي لم تكن قائمة على أساس العرق، وبشكل أساسي المجلس الوطني الإفريقي، ضمت مجموعات الفنانين الأكثر تنظيمًا، حيث استندت إلى الاختصاص، مثل مجلس الكتاب في جنوب إفريقيا، ومؤسسة السينما والعمال المتحالفين، وائتلاف الراقصين، إلخ. تلقّت هذه المنظمات الدعم، بشكل رئيسي، من التمويل الدولي، ولاسيما بعد أن شلّت حالة الطوارئ أشكال النشاط السياسي "المعتادة"، وأصبحت الفنون درعًا يحمي استمرار النضال ضد نظام التمييز العنصري.

3. الفنانون الذين آمنوا بمقولة "الفن للفن"، وتجنبوا بشكل واعٍ الشؤون السياسية، فسعوا إلى كسب رزقهم من دعم العائدات التجارية لأعمالهم الفنية، ومن الرعاية الإعلانية.

 

خارجيًا، قدمت الحركات في المنفى (المجلس الوطني الإفريقي، الذي لم يستند إلى العرق، ومجلس عموم إفريقيا، الذي ركز على قيادة السود وتطلعاتهم) رعاية للفنانين المنفيين، فاكتسب فنانون مثل هيو ماسيكيلا وميريام ماكيبا اعترافًا عالميًا كرموز للعمل الثقافي المناهض للتمييز العنصري. تم تقديم الدعم أيضًا للفنانين التقدميين المقيمين داخل البلاد للقيام بجولات في الخارج بمساعدة متبرعين دوليين لتوعية الجمهور العالمي بالأثر الإنساني الكبير على إيديولوجيا التمييز العنصري وممارساته.

عندما وصل الضغط الدولي والمقاومة الوطنية إلى الأهداف المنشودة، ورفعت حكومة التمييز العنصري الحظر عن المجلس الوطني الإفريقي، وأطلقت سراح نيلسون مانديلا، وبدأت بالتفاوض، تشكلت تحالفات فنية جديدة. أدركت المنظمات الفنية التقدمية أنه في ظل إرث نظام التمييز العنصري، من غير المرجح أن تكون الفنون عنصرًا في المفاوضات إلا إذا ضغط الفاعلون الثقافيون بقوة لصياغة سياسات فنية وثقافية جديدة تعكس النظام السياسي الجديد. وبالتالي، بعد أن كانت منظمات فنية عديدة متحالفة مع المجلس الوطني الإفريقي، اتجهت هذه المنظمات إلى تشكيل حركة غير حزبية ترغب في ضم كافة الفاعلين الثقافيين، بمن فيهم من كانوا يوصَفون سابقًا بالأعداء، وتضم الفاعلين الثقافيين من مختلف الإيديولوجيات في حركة مناهضة التمييز العنصري، وذلك لتطوير رؤية للسياسات ما بعد نظام التمييز العنصري، ووضع أسس فعالة للعمل الثقافي. من هذا التحرك، وُلد ائتلاف الفنون الوطني عام 1993، وبذلك، مع أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في نيسان/أبريل 1994، كان الفنانون قد صاغوا اقتراحات واضحة لسياسات ثقافية وفنية جديدة، والتي أُدمِج كثير منها في أول سياسة ثقافية بعد نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، والتي تبنتها الحكومة عام 1996.

لم توافق إدارة الفنون والثقافة في المجلس الوطني الإفريقي على هذه المنظمات، حيث اعتبرها غير متوافقة سياسيًا مع توجهه، ولم تقر بأن المجلس الوطني الإفريقي يجب أن يدير كافة شؤون التحول الاجتماعي، ولكن هذه المنظمات الفنية وقياداتها كانت واضحة بشأن الحاجة إلى استقلالها، كون المجلس الوطني الإفريقي سيلعب دورًا مهمًا في الحكومة الجديدة، ولأن الفنانين، ضمن منظماتهم، يجب أن تكون لديهم الحرية على "قول الحقيقة في وجه السلطة" دون الحاجة إلى اللجوء إلى "الراعي" السياسي السابق.

في جنوب إفريقيا المعاصرة، تتسم المنظمات الفنية بالضعف، فالفنانون لا يرون حاجة للانتماء إليها، ويسعون عمومًا إلى إنتاج أعمالهم الفنية وكسب رزقهم بدعم الحكومة أو دونه. وسعت الحكومة إلى تنظيم الفنانين ضمن اتحاد للقطاعات الإبداعية، بشكل هَرَمي، ولكن تلك المحاولة باءت بفشل ذريع. كانت فترة نشاط حركة مناهضة التمييز العنصري، والمرحلة الانتقالية التي لعب خلالها الفنانون دورًا كبيرًا في صياغة السياسات، هي المرحلة الأكثر نشوة. إنها لَمُفارقة إذًا، أن "الحرية" و"الديمقراطية" أديا، في الواقع، إلى تقويض وإضعاف منظمات الفنانين، رغم أن الحاجة إلى منظمات كهذه ما زالت قائمة، وإن بظروف مختلفة.

في ضوء ما ذُكر أعلاه، فيما يلي الموضوعات الخمسة التي قد يجد الفنانون السوريون التفكير فيها مفيدًا:

1. نظرًا إلى الصراع الحالي داخل سوريا، يقبع الفنانون السوريون في دائرة تركيز المتبرعين الدوليين، حيث يسعى المنسقون ومدراء المهرجانات لتقديم منبر تُروى عليه "القصة السورية". سيتغير هذا حتمًا مع اقتراب الصراع من إيجاد حل أو آخر، و/أو مع الوصول إلى مرحلة "التعب السوري". على الناشطين الثقافيين في الشتات وداخل سوريا أن يتوقعوا هذا، وينظموا أنفسهم على هذا الأساس: كيف يمكن استغلال الفرصة الحالية لخلق موارد لدعم الممارسة الفنية داخل سوريا والفنانين السوريين الذين يختارون البقاء في المنفى بعد انتهاء الصراع؟ سيؤدي التركيز على "إعادة إعمار سوريا" وكلفة إعادة بناء البنية التحتية إلى النظر إلى الفن كرفاهية، لذلك، يمكن للفاعلين الثقافيين أن يفكروا في تأسيس صندوق الآن يجمع مساهمات لدعم العمل الفني لاحقًا. ما هو شكل التنظيم اللازم لتيسير ذلك الآن؟

2. في سوريا بعد إعادة الهيكلة، إن حدثت، ما هي البنية السياسية التي يراها الفنانون الأفضل؟ ما هي السياسات الثقافية والفنية التي يرغبون في تطبيقها؟ ما هو الدور الذي يراه الفنانون لأنفسهم في إعادة إعمار سوريا؟ ما هي البنى القائمة حاليًا لصياغة السياسات الثقافية والدفاع عنها ومراقبة تطبيقها؟ ما هو شكل التنظيم اللازم لتيسير هذا الآن؟

3. لم ينتهِ الصراع في سوريا بعد. لذا، ثمة حاجة لتنظيم وتشبيك الفنانين، سواء كانوا في المنفى أم داخل سوريا، كي يعملوا على تنفيذ السبل الأكثر فاعلية في المساهمة في إنهاء الصراع. بعد ذلك، سيكون الفنانون بحاجة إلى التنظيم والمساهمة في المرحلة الانتقالية، وفي بناء مجتمع جديد بعد انتهاء الصراع. ولكن ذلك لن يكون نهاية الطريق. سيحتاج الفنانون إلى منظمات تراقب تنفيذ السياسات الثقافية، وتواصل الدفاع عن مصالح الفنانين الفردية والجماعية في سوريا بعد إعادة الهيكلة. ما هي أشكال التنظيم المطلوبة الآن لتيسير عمل الفنانين ضمن ثلاث مراحل مختلفة ومتباينة؟

4. خرج العديد من الفنانين والفاعلين الثقافيين من سوريا. إلى أن يحين زمن انتهاء الصراع، سيكون بعضهم قد أسس حياة جديدة في الخارج، وقد يختار هؤلاء البقاء في المنفى. وسيسعى غيرهم للعودة والمساهمة في وطنهم. سيكون هناك فنانون بقوا داخل البلاد، وسيكون بعضهم متحالفًا أو متعاطفًا مع نظام الأسد، وسيكون البعض الآخر جزءًا لا يتجزأ من المعارضة. الذين بقوا داخل البلاد قد يشعرون بالاستياء من الفنانين العائدين. كيف يمكن للقطاع الفني والثقافي ورواده جمع هذه القوى المشتتة وتوحيدها خلف مصالحها المشتركة؟ هل هذا هدف مطلوب؟ إذا كان مطلوبًا، فما هي أشكال التنظيم اللازمة للعمل بهذا الاتجاه؟

5. ثمة قوى سياسية متورطة في الصراع في سوريا، وثمة قوى سياسية دولية مشاركة في الصراع أيضًا، وفي ظل مشاركة هذه القوى جميعًا في زمن وكيفية انتهاء الصراع، كيف ستبدو سوريا بعد إعادة الهيكلة، ومن سيحوز السلطة السياسية؟ كيف سيضمن الفنانون والفاعلون الثقافيون حماية مصالحهم في ظل تشكل هذه القوى السياسية؟ ما هي أشكال التنظيم اللازمة لضمان تأثير قطاع الفنون والثقافة السوري في تشكيل سوريا سياسيًا، وكيف يجب على القطاع التفاعل مع القوى المختلفة التي تشكل مستقبل البلاد؟

 

خاتمة 

سوف تختلف أشكال تأسيس مجموعات فنية سوريا على مدى تشاؤم أو تفاؤل الفاعلين السوريين الثقافيين في الفضاء الثقافي. فإذا كانت النظرة العامة هي أن الصراع لن ينتهي قبل خمس أو عشر سنوات إضافية، فهذا يستلزم أشكال تنظيم مختلفة عن تلك التي يستلزمها توقع انتهاء الصراع خلال السنوات الخمس المقبلة. من ترعرع منا في ظل نظام التمييز العنصري كنا نعتقد أنه لن ينتهي أبدًا، رغم أننا عملنا بنشاط خلال سنوات الدراسة والنضج سعيًا إلى إسقاطه. ثم انتصرنا. ثم خسرنا. لأننا منحنا شركاءنا في التحرير أكثر مما استحقوا من الثقة، وسمحنا بأن يتسلل الانقسام إلينا بسبب المُغريات قصيرة المدى التي يقدمها لاعبون سياسيون. 

أرجو لنظرائي السوريين الحكمة والشجاعة والإرادة السياسية اللازمة ليصنعوا مصيرهم بأنفسهم.


© الحقوق محفوظة اتجاهات- ثقافة مستقلة 2024
تم دعم تأسيس اتجاهات. ثقافة مستقلة بمنحة من برنامج عبارة - مؤسسة المورد الثقافي